الجمعة، غشت 11، 2006

(البعوضة (محمـــود درويش


البعوضة، ولا أعرف اسم مذكرها في اللغة، أَشدُّ فتكاً من النميمة. لا تكتفي بمصّ الدم، بل تزجُّ بك في معركة عبثية. ولا تزور إلاّ في الظلام كحُمَّى المتنبي. تَطِنُّ وتزُنُّ كطائرةٍ حربيّة لا تسمعها إلا بعد إصابة الهدف. دَمُكَ هو الهدف. تشعل الضوء لتراها فتختفي في ركن ما من الغرفة والوساوس، ثم تقف على الحائط... آمنةً مسالمةً كالمستسلمة. تحاول أن تقتلها بفردة حذائك، فتراوغك وتفلت وتعاود الظهور الشامت. تكرّر محاولتك وتفشل. تشتمها بصوت عال فلا تكترث. تفاوضها على هدنة بصوت ودّيّ: نامي لأنام! تظن أنك أَقْنَعْتَها فتطفئ النور وتنام. لكنها وقد امتصت المزيد من دمك تعاود الطنين إنذاراً بغارة جديدة. وتدفعك إلى معركة جانبية مع الأرق. تشعل الضوء ثانية وتقاومهما، هي والأرق، بالقراءة. لكن البعوضة تحط على الصفحة التي تقرؤها، فتفرح قائلاً في سرِّك: لقد وَقَعَتْ في الفخّ. وتطوي الكتاب عليها بقوة: قتلتُها... قتلتُها! وحين تفتح الكتاب لتزهو بانتصارك، لا تجد البعوضة، ولا تجد الكلمات. كتابك أَبيض. البعوضة، ولا أعرف اسم مذكرها في اللغة،ع ليست استعارةً ولا كنايةً ولا تَوْريةً. إنها حشرة تحبّ دمك. تشمُّه عن بعد عشرين ميلاً. ولا سبيل لك لمساومتها على هدنة غير وسيلة واحدة هي: أن تغيِّر فصيلة دمك!

جريدة الأيام الفلسطينية
8/8/2006